قال الموفق عبد اللطيف : أتيت ، وصلاح الدين بالقدس ، فرأيت ملكا يملأ العيون روعة ، والقلوب محبة ، قريبا بعيدا ، سهلا محببا ، وأصحابه يتشبهون به ، يتسابقون إلى المعروف كما قال تعالى : ((ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا)) وأول ليلة حضرته وجدت مجلسه حفلا بأهل العلم يتذاكرون ، وهو يحسن الاستماع والمشاركة ، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار ، وحفر الخنادق ، ويأتي بكل معنى بديع ، وكان مهتما في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه ، ويتولى ذلك بنفسه ، وينقل الحجارة على عاتقه ، ويتأسى به الخلق حتى القاضي الفاضل ، والعماد إلى وقت الظهر ، فيمد السماط ، ويستريح ، ويركب العصر ، ثم يرجع في ضوء المشاعل ، قال له صانع : هذه الحجارة التي تقطع من أسفل الخندق رخوة ، قال : كذا تكون الحجارة التي تلي القرار والنداوة ، فإذا ضربتها الشمس ، صلبت . وكان يحفظ " الحماسة " ، ويظن أن كل فقيه يحفظها ، فإذا أنشد ، وتوقف ، استطعم فلا يطعم ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل ، لم يكن يحفظها ، وخرج ، فما زال حتى حفظها.
حُمَّ صلاح الدين ، ففصده* من لا خبرة له ، فخارت القوة ، ومات ، فوجد الناس عليه شبيها بما يجدونه على الأنبياء ، وما رأيت ملكا حزن الناس لموته سواه ، لأنه كان محببا ، يحبه البر والفاجر ، والمسلم والكافر ، ثم تفرق أولاده وأصحابه أيادي سبأ ، وتمزقوا.
* الفصد في اللغة هو شق العِرق، والمقصود به هو اخراج دم من أحد أجزاء الجسم عن طريق احداث شق في وريد رئيسي من الجسم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق